التحديات بوجه القيادة الإسلامية: رؤية ثقافية لدول الخليج العربي
إذا بحثتَ عن مصطلح القيادة الإسلامية في أهمّ المنشورات الاقتصادية في العالم، فعلى الأرجح أنّك ستجِد نتائج تُعنى بالسياسة والنفوذ
في حين أنّ هذه الدول تتصدّر المناقشات العالمية المهمّة، فالمملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات وقطر وسلطنة عمان هي دول مصدّرة للنفط، وبالتالي لها تأثير لا يُستهان به على الاقتصاد العالمي. بالإضافة إلى ذلك، لقد أعربت هذه الدول صراحةً عن عزمها لمواجهة التحديات مثل الاستدامة، وتنويع الاقتصاد نحو الرقمنة، وتمكين المجتمع المدني ليؤدي دورًا فاعلًا في الاقتصاد الوطني، ودمج المرأة في المجتمع وتفعيل دورها
بالنظر إلى هذه المعطيات، يتحوّل مفهوم القيادة الإسلامية من مفهوم سياسي صرف إلى مفهوم يشمل المجتمع المدني والمواطنين والشركات
هنا سؤال يطرح نفسه: كيف يتعامل قادة هذه الدول مع التحديات المختلفة التي تواجههم؟ ما هي المواصفات التي تُميّز القيادة الإسلامية؟
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذه المواصفات، وليس استعراض أوجه الاختلاف بين أساليب القيادة الإسلامية والغربية، مع العلم أنّ القيادتَين تلتقيان في نواحٍ عدّة. فغالبية القادة المسلمين في دول الخليج يميلون إلى اعتماد الاستراتيجيات وخطط العمل من الغرب وتعديلها لتتوافق مع بلدانهم. يُعزى ذلك بشكل أساسي إلى تحصيلهم العلمي، وإلى انغماسهم يوميًا في بيئة أعمال عالمية ومتعدّدة الجنسيات. علاوةً على ذلك، تتصدّر هذه الدول التجارة العالمية، باعتبارها من كبار مصدّري السلع الأساسية والنفط والغاز
لفهم القيادة الإسلامية، لا بدّ من النظر إلى السمات التي تميّزها. بحسب كتّاب هذا المقال، فإنّ هذه السمات تؤثّر على القيادة الغربية، إذ أنّ العولمة دفعت بعجلة تبادل الناس والسلع والمعلومات والمعارف
المساءلة
تفرّق قيادات دول الغرب بين المسائل الدينية والعلمانية. أمّا الإسلام فلا يفرّق بين الاثنين، ويحدّد قواعد سلوك البشر التي تطال كل نواحي حياة الإنسان
من هذا المنطلق، الصفة الأولى للقيادة الإسلامية هي المساءلة، وينطبق ذلك على القادة وفرق العمل على حدّ سواء. فالقيادة في الإسلام تعني أخذ زمام المبادرة بنزاهة في إطار علاقة القائد بالأتباع. ويعتبر الإسلام القيادة قيمة من القيم الأخلاقية، وعملية للتواصل نحو تحقيق هدف محدّد. يتميّز القادة عن أتباعهم بثقافتهم، والتزامهم بالمبادئ الإسلامية، وأخلاقهم السامية
لذا فإنّ القيادة الإسلامية تُحدّد القيم التي ترعى العلاقة بين القادة والأتباع والخطوات الواجب اتّخاذها لتعزيز حسّ الانتماء إلى المجتمع والهوية. لا يجوز لأي من الطرفين أن يفرض نفوذه على الآخر أو يستغلّه. بل يجب أن ينخرطا معًا في عملية جوهرها تحقيق هذه القيم. يدرك القائد كما الأتباع هذا الهدف ويتّفقان على السعي يدًا بيد إلى تحقيقه
إدارة شاملة تقوم على القيم
من النواحي الأخرى التي تميّز القيادة الإسلامية هو تركيزها على الديناميات البشرية وعلى الجماعة كأولويّة، عوضًا عن التركيز على الفرد
يسير أسلوب القيادة الإسلامية من أعلى الهرم حتّى أسفله، مع التركيز على ترسيخ القيم والأخلاق. من شأن هذا النوع من القيادة الإسلامية أن يتيح نموذجًا إداريًا جديدًا للتعامل مع المعضلات الأخلاقية القائمة في العديد من الشركات حول العالم، وإدخال ممارسات تستند إلى مفهوم الإدارة القائمة على القيم
الإدارة القائمة على القيم عبارة عن فلسفة تقوم على دعم خلق القيمة داخل المؤسّسات، وغالبًا ما ينطوي خلق القيمة على زيادة القيمة للمساهمين إلى أقصى حدّ. ترتكز القيادة الإسلامية على الإدارة بالقدوة، التي تقترح نموذجًا قيّمًا أكثر للجم الآفات الأخلاقية الكثيرة في المؤسّسات الحديثة. ترتقي الأخلاقيات الإسلامية المهنية بالمؤسسات نحو تحقيق “إدارة شاملة تقوم على القيم” من خلال ضمان القيمة لجميع المعنيين. باختصار، فإنّ العالم الإسلامي مخوّل لقبول تحدّي التوفيق بين النمو الاقتصادي والأخلاق بما أنّ ثقافته وتقاليده تقوم على القيم الصلبة والمتينة
ازدهار ورخاء وثقافة
تتوافق القيم الإسلامية مع حاجة الإنسان للازدهار والسعادة، بغضّ النظر عن خلفيّته ومهنته. يرِد هدف سعادة المواطن في رؤية السعودية 2030، التي وضعت مؤشّرات محدّدة لقياس التقدّم في هذا المجال. يُعتبر التطوير على مستوى القيادة أحد أبرز المواضيع في التعاليم الإسلامية، وهو أحد أهدافها. ولا بدّ من أن يطال التطوير القيادي كافة أطياف المجتمع المدني، بما في ذلك المرأة، إذا ما أردنا مواجهة التحديات التي تعترض الدول والشركات والمواطنين في العالم الإسلامي
يُشكّل الفنّ والثقافة ركيزة لترسيخ القيادة في عالم اليوم المترابط مع بعضه البعض. وممّا لا شكّ فيه أنّ التقاليد الإسلامية في مختلف المجالات الفنيّة تركت إرثًا ثقافيًا كان له وقع كبير على تاريخ الإنسانية، حتّى أنّه أثّر على الثقافة الغربية، ولعلّ إسبانيا خير دليل على ذلك. وبحسب عالمَي الاجتماع جيل ليبوفتسكي وجان سيروي، يجتاح العالم اليوم تيّار “تجميلي”، وينجم عنه نوع جديد من الرأسمالية “الفنية”. يمتلك العالم الإسلامي عناصر رائعة لبسط ريادته في الفنّ. فلنأخذ على سبيل المثال الأديب المصري نجيب محفوظ (الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1988)، والمهندسة المعمارية العراقية زها حديد (وهي أوّل امرأة تنال جائزة بريتزكر للهندسة المعمارية عام 2004)
رؤية والتزام وإنجازات
لا يجوز أن تعتمد القيادة على المهارات القيادية فحسب، بل لا بدّ من أن تمتلك البنية التحتية والتكنولوجيا التي تُشكّل إطار عمل يساهم في تعزيزها. من هذا المنطلق، يُشكّل بناء المدينة التعليمية الذكية في قطر مثالًا على الرؤية الإسلامية التي تقوم على التزام ثابت بالمعرفة والعلوم
في قطاع تطوير البنى التحتية، التزمت دول الخليج التزامًا صارمًا بالنمو السريع، الذي استقطب الوافدين من مختلف الدول والجنسيّات لينخرطوا في القوى العاملة. في المملكة العربية السعودية مثلًا، تبلغ نسبة الوافدين أكثر من 13,12 مليون نسمة (بحسب البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة عام 2019)، أي ما يُمثّل 38,5 في المئة من سكّان المملكة، معظمهم من الهند (18,60 في المئة) وإندونيسيا (12,70 في المئة) وباكستان (11,03 في المئة)
انطلاقًا من هذه الرؤية، فمن البديهي أن توفّق دول الخليج العربي احتياجاتها للنمو مع إدماج هؤلاء الوافدين، ويتطلّب ذلك قيادة واضحة تراعي مختلف الحساسيات والثقافات من دون أن تفقد هويّتها كدولة. يستلزم الإدماج في المجتمع شعور الوافدين بحسّ الانتماء والسلامة والأمن، وهو مسألة ملفتة جدًا في هذه الدول حيث تقارب معدلات الجرائم الصفر وحيث يتسنّى لكل فرد تحقيق النمو والإنجاز
وأخيرًا، لا يسعنا أن ننسى التحدّي الذي يُشكّله الانتقال إلى اقتصاد جديد بالنسبة إلى دول الخليج، التي تسعى إلى الحدّ من بصمتها الكربونية. سوف تؤثّر أهداف التنمية المستدامة التي حدّدتها الأمم المتحدة وأقرّتها مختلف المؤتمرات والاتفاقيات والمعاهدات حول العالم على اقتصاد دول الخليج. لا بدّ من إرساء قيادة إسلامية ذات رؤية واضحة لتحويل المصدر الأول والأساسي للدخل في هذه الدول إلى قطاعات ناشئة مثل الاقتصاد الرقمي والسياحة والصحة. وطبعًا لن ننسى تأثير هذا التحوّل الاقتصادي على الغذاء والمياه، وسنتطرّق إليه في مقالات مقبلة