تحديّات القيادة في صلب الرؤى الاقتصادية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط
إذا ما نظرنا إلى مشهد العالم ما بعد الجائحة، حيث عانت الغالبية الساحقة من الدول تراجعًا في إجمالي ناتجها المحلي عام 2020 ولم تبدأ بالتعافي سوى مؤخّرًا، تطرأ أسئلة كثيرة حول شكل المرحلة الجديدة من التعافي الاقتصادي والحياة السياسية والتفاعلات الاجتماعية.
تبدو الآفاق جيّدة إجمالًا. فبحسب تقرير أعدّه صندوق النقد الدولي في شهر أكتوبر 2021، وصل النمو الاقتصادي العالمي إلى 5,9 في المئة بحلول نهاية عام 2021، فيما النمو المرتقب لعام 2022 سجّل 4,9 في المئة. يكمن العائق في أنّ هذا التعافي الاقتصادي يأتي في سياق جوّ يسوده الإبهام المتزايد وصعوبة التضحية بأشياء لصالح أشياء أهمّ عند اختيار السياسات الواجب تطبيقها. على هذه الخلفيّة، يتساءل المرء حول دور القادة في رسم معالم المستقبل وحول رؤيتهم القيادية لمجتمعاتهم.
من الأمثلة الملفتة جدًا على ذلك دول الشرق الأوسط، وتحديدًا دول الخليج العربي، والمملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر وسلطنة عمان. فهي تُشكّل جزءًا من الدول المصدّرة للنفط، وبالتالي تؤثّر إلى حد كبير على الاقتصاد العالمي. كما أنّ العديد منها سبق أن أطلق مشاريع للتنويع الاقتصادي قبل الجائحة، وأعدّ قادتها رؤيتهم حول مستقبل بلادهم. يُشير صندوق النقد الدولي إلى أنّ آفاق الدول المصدّرة للنفط عالميًا جيّدة لعام 2021 (نمو بنسبة 4,5 في المئة) ولعام 2022 (نمو بنسبة 3,9 في المئة)، في ظلّ أرصدة الحسابات الجارية الإيجابية وانعدام معدّلات البطالة. ومن بين هذه التوقّعات، تقترن الآفاق الأفضل بتلك المتعلّقة بدول الخليج. كيف تبدو رؤيتهم بعد جائحة كوفيد، مقارنةً برؤيتهم ما قبل الجائحة؟ والأهمّ، ما هو الدور الذي يجب أن يضطلع به قادة هذه الدول في إطار هذا السياق الجديد؟
فلنأخذ المملكة العربية السعودية على سبيل المثال. فقد أطلقت المملكة استراتيجيّتها للمستقبل تحت عنوان “رؤية السعودية 2030”. ولهذه الدولة تأثير لا يُستهان به على الحضارة المسلمة، إذ أنّها تقع على تقاطع قارّات ثلاث وهي أفريقيا وآسيا وأوروبا. كما أنّها تُشكّل وجهة أساسية للسياحة الدينية، وهو قطاع كان يجذب 8 ملايين سائح في السنوات السابقة للجائحة. لا فإنّ رؤية المملكة والاستراتيجية التي تعتمدها للنمو تُشكّلان قدوة لسائر دول الشرق وتؤثّران عليها.
إنّ الرؤية المستقبلية المرسومة للمجتمع تُشكّل عنصرًا أساسيًّا من عناصر دور القادة تجاه المواطنين. يُمكن تعميم هذه الرؤية بطريقة رسمية على المجتمع من خلال مشاريع ومحاور مدرجة في إطار خطة استراتيجية، كما فعلت المملكة في “رؤية السعودية 2030”.
اختار قادة البلاد خطة نمو على صعيد المملكة برمّتها “رافقها التطوير المنتظم للبنى التحتية”. لكنّهم في الوقت نفسه يهدفون إلى تطوير جودة حياة الجميع وتلبية احتياجات المواطنين ومستلزماتهم. لهذا الغرض، يريدون تطوير “خدمات عالية الجودة ومساحات مفتوحة وحدائق، من أجل تلبية الاحتياجات الترفيهية للأفراد والعائلات”. يُشكّل التوفيق ما بين النمو الاقتصادي من جهة وسلامة المواطنين والحفاظ على البيئة من جهة أخرى تحديًّا للقادة نظرًا إلى التوتّر وتضارب المصالح بين هذه العوامل الثلاثة. بهدف التحقيق التوازن بينها وبين نموذج الاستدامة، يجب على القادة أن يعتمدوا على تسهيل دور التكنولوجيا وعلى إشراك المواطنين بطريقة فاعلية بالخطوات المتّخذة.
يتمثّل أحد أهداف هذه الخطة في تطوير بنى تحتية تُركّز على مساعدة المدن على النمو نحو نموذج أذكى يفسح المجال أمام “ثلاث مدن سعودية لتُصنَّف من بين أفضل 100 مدينة في العالم”. لهذا الغرض، يلتزم القادة ببناء مدن ذكية، تؤدّي فيها التكنولوجيا دورًا محوريًا، غير أنّ التحدّي يكمن في تحديد مدى تأثير التكنولوجيا على المدن الذكية ورسم حدودها.
بالتوازي، لا بدّ من مقاربة المسألة من منظار اجتماعي والتماس مدى استعداد المواطنين لإدخال التقنيّات المتطوّرة إلى حياتهم اليومية. فقد تظهر حركة رافضة بوجه التكنولوجيا بحدّ ذاتها، ولكن أيضًا بوجه خصوصية البيانات. يؤثّر ذلك بدوره مباشرةً على اتّخاذ القرارات بناءً إلى البيانات. في نهاية المطاف، يتمحور مفهوم المدن الذكية برمّته حول تعزيز الخدمات المقدّمة إلى المواطنين بصورة متواصلة. لهذه الغاية، يجب على القادة استخدام البيانات التي توفّرها تكنولوجيا الاستشعار وإنترنت الأشياء بالشكل المناسب.
في حديث مع وكالة الأنباء الإسبانية “إيفي”، قال الفيلسوف بيونغ شول-هان من كوريا الجنوبية إنّ “جائحة كوفيد-19 قد حوّلتنا إلى مجتمع هدفه الصمود، خسر معنى الاستمتاع بالحياة”، حيث “نضحّي بالسعادة من أجل الصحّة”. في كتابه الأخير، الذي حمل عنوان Non-things: Upheaval in the Lifeworld، يقول شول-هان إنّ “النظام الأرضي يتنحّى أمام النظام الرقمي، فيحلّ عالم اللا-أشياء محال عالم الأشياء”. وبوجه تطوير المدن الذكية، لا بدّ من شقّ الطريق أمام “المواطن الذكي” كنموذج بديل أو معاصر، ممّا يعني أنّه لا يجوز، ولا في أي حال من الأحوال إعطاء الأولوية للتكنولوجيا على حساب الإنسان – إذ أنّ مجرّد وجودها يحب أن يكون فقط من أجل تحسين حياة الإنسان، وليس لتُشكّل تحديًّا أو ضررًا.
سبق أن بدأ دمج التكنولوجيا التي تساند المدن الذكية، وقطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والبنى التحتية للاتصالات، وتحديدًا النطاق التردّدي عالي السرعة، وتكنولوجيا الاستشعار، وأنظمة إنترنت الأشياء (IoT) وتطوّرها إلى إنترنت السلوك (IoB) ، وتكنولوجيا البلوك تشين، والذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، في واقع المدن. لكن يبقى علينا تحديد ردود فعل المواطنين تجاه انتشار هذه التكنولوجيا. ففي السياق الجديد ما بعد الجائحة، هل سيتمّ تعزيز الخدمات الرقمية الجديدة أكثر فأكثر لتسدّ الفجوة التي تركها التباعد الجسدي والاجتماعي؟ أمّ أنّ المواطنين، بالعكس تمامًا، سيفضّلون التواصل الجسدي في المساحات المفتوحة والمنسّقة، أي بعبارات أخرى في بيئة طبيعية لا تطغى عليها التكنولوجيا؟
حتّى هذا اليوم، اختار القادة في دول الخليج تطوير ثلاثة أنواع مختلفة من المدن الذكية، يتفاوت فيها إدماج التكنولوجيا والاستدامة. يتجلّى ذلك في ثلاثة مشاريع، وهي “مشيرب قلب الدوحة” و”المدينة التعليمية” و”مدينة مصدر”، الأولى والثانية مقرّهما قطر، فيما الأخيرة في أبوظبي. تُشكّل المدينة الأولى نموذجًا للمدينة الذكية الاقتصادية، والثانية نموذجًا لـ”مدينة البحوث والتعليم”، والثالثة لـ”المدينة خضراء”. نفتقر في هذه النماذج الثلاثة إلى طريقة تفكير شاملة أكثر حول نموذج المدينة بحدّ ذاتها، حيث تعالج الاستدامة عوامل عدّة، عوضًا عن كونها محورًا بحدّ ذاتها. علاوةً على ذلك، يفوت الخطط والسياسات أن تضع مشاركة المواطنين كأحد أهدافها.
يجب أن تُتَرجَم هذه الرؤية الشاملة للقادة في استخدام التكنولوجيا كوسيلة تُسهّل أهداف التنمية المستدامة وتدمجها في المدينة، ممّا يساعد على تطوير اقتصاد بديل وتنويع المخاطر المترتّبة على تقلّب أسعار النفاط. يضمن ذلك أيضًا استدامة تمويل النموذج وخطّة تطبيقه. لكن لتحقيق هذه الغاية، لا بدّ من الاعتماد على إشراك المواطنين بطريقة فاعلة، إذ أنّهم يؤثّرون على نتيجة هذه السياسات من خلال أنماط الاستهلاك ومشاركتهم في أوجه الابتكار ونماذج الأعمال الجديدة (مثلًا من خلال “الابتكار المفتوح”) التي تُشكّل ركيزة هذه المدن الذكية الجديدة. من ناحية أخرى، إذا أرادت الدول تحقيق النمو الاقتصادي السريع، فعليها الترويج لقادة جدد في مجال الأعمال والمجتمع لاحتضان نسبة أكبر من الاقتصاد الخاص مقارنة بالوزن الحالي للاقتصاد الرسمي (الذي يستأثر حاليًا بحوالي 60 في المئة من إجمالي الناتج المحلي). لذا فإنّ دور القادة الراهن في البحث عن قادة جدد من بين السكان وتحديدهم وتطويرهم يبدو بنظرنا أولى الأولويات.
باختصار، فإنّ المهمّة الأبرز الملقاة على عاتق القادة هي اتّخاذ القرار الصائب للموازنة بين التكنولوجيا الهادفة إلى تحسين حياة المواطنين واستخدام أنواع أخرى من الاستراتيجيات الاجتماعية، التي تسعى إلى إشراك المواطنين في الخطط قيد التنفيذ. يُمكن تحقيق ذلك من خلال نشر التوعية حول التحديات التي يواجهها المجتمع، وأخذ آراء المواطنين في عين الاعتبار. لولا هذه الركائز الثلاث، قد تغيب مشاركة المواطنين، ممّا سيعيق حتمًا تحقيق هذه الرؤية. يجب على القادة تجنّب هذا الخطر مهما كلّف الأمر، في حال أرادوا الترويج للاستدامة لصالح غدٍ أفضل.