التنويع الاقتصادي في دول الشرق الأوسط يتطلّب قيادة مبتكرة
تنويع الاقتصاد من أجل الاستدامة
قد تكون منطقة الشرق الأوسط أكثر منطقة معنيّة مؤخّرًا بتحويل اقتصادها من اقتصاد يقوم على النفط، إلى آخر أكثر تنوّعًا. ومع تقلّب أسعار الوقود الأحفوري، وفي ظلّ الانتقال الثابت، وإن بوتيرة بطيئة، نحو الطاقة النظيفة، وعلى ضوء التطوّرات التكنولوجية التي ترسم معالم العالم الحديث، تقود الاقتصادات التي تقوم على النفط في الشرق الأوسط الإصلاحات لتُرسي نموذجًا اقتصادًيا متنوّعًا يُحتذى به يتوجّه نحو المعرفة والخدمات والمراكز التكنولوجية.
يصف مايكل برادشو، وهو بروفسور في الطاقة العالمية في كلية وارويك للأعمال، المشهد على النحو التالي، فيقول: “إنّ حاجة الدول المصدّرة للنفط في الشرق الأوسط لتنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد المفرط على إنتاج الهيدروكربونات وتصديرها ليس بالخبر الجديد. فحتّى قبل أزمة المناخ، أوحى مفهوم ’لعنة النفط‘ والتحديات التي يفرضها تقلّب الأسعار بالحاجة إلى تنويع الاقتصاد، وتمّ إحراز بعض التقدّم من ناحية تطوير اقتصاد الخدمات وتنمية قطاعَي النقل والسياحة. حملت حرب أسعار النفط والموجة الأولى من جائحة كورونا مطلع عام 2020 صدمة مالية من نوع آخر، إلا أنّ أسعار النفط تعافت عام 2021، وعاد تدفّق الإيرادات. لكن لا بدّ من التنبّه إلى أنّ هذا ليس سوى بِسراب، ولا يعني أبدًا أنّ الأمور ستعود إلى سابق عهدها ولا أنّ الطلب والدخل سيستمرّان بالنمو.
ويتابع برادشو قائلًا: “على الرغم من أوجه قصور ’ميثاق غلاسكو للمناخ‘، لم يعُد يخفى على العديد من الدول المصدّرة للنفط أنّ تغيّر المناخ يُشكّل خطرًا وجوديًا على الطلب على النفط في المستقبل، كما على تَوفّر الريع النفطي. ومع أنّ معدّل التراجع لا يزال مبهمًا، والدخل من النفط قد يستمرّ طوال العقد المقبل، يبقى على هذه الدول أن تتحضّر الآن لعهد ما بعد النفط، ويبدأ ذلك أوّلًا وقبل كل شيء من تطوير اقتصادات أكثر تنوّعًا بإمكانها توليد مصادر جديدة لفرص العمل والإيرادات. في حال تعذّر عليها ذلك، سيؤدّي ذلك حتمًا إلى مصاعب اقتصادية وتزعزع الاستقرار السياسي. لذا فإنّ التوقيت مؤاتٍ اليوم للنظر إلى خفض نسب الكربون كفرصة لتحقيق التنوّع الاقتصادي ومستقبل أكثر استدامة”.
بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، ركّز التحوّل الاقتصادي بالدرجة الأولى على العلوم والتكنولوجيا، إذ تصبو المملكة إلى أن تصبح مركزًا رياديًا يقوم على المعرفة، على الصعيدَين الإقليمي والدولي، ممّا يعني أنّ القوى البشرية والسياسات والشراكات والبنى التحتية المساندة لها سوف تضع الحجر الأساس للنمو. يستوجب ذلك بالمقابل درجة انخراط أكبر من قِبل السكّان، وتعزيز دور النظام التربوي ومؤسّسات الدولة.
أمّا دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد استقطبت في البداية شركات دولية وذلك من خلال تطوير بنى تحتية مالية وتكنولوجية جذّابة، ولا تزال تنمو بخطوات ثابتة لتصبح واحة للابتكار والتكنولوجيا. ومع انطلاق فعاليّات معرض إكسبو 2020، الذي يُعدّ الحدث الأكبر على صعيد المنطقة، رسّخت دولة الإمارات مكانتها الرائدة في مجال الحوسبة الكمية، والذكاء الاصطناعي، والسفر الجوي، والرعاية الصحية التي ترتكز على التكنولوجيا. بالفعل، أفاد تقرير نشرته وكاله رويترز بأنّ الإكسبو ساهم في طفرة نمو القطاع الخاص غير النفطي.
بدورها، ركّزت سلطنة عمان على التجارة والصناعة، ورسمت استراتيجية لوجستية تُحدّد أهدافًا على الأمد الطويل لزيادة مساهمة قطاع الخدمات اللوجستية في إجمالي الناتج المحلي. وبحسب إدارة التجارة الدولية، تطمح السلطنة إلى الاستفادة من موانئها البحرية في المياه العميقة في خليج عمان والمحيط الهندي لتصبح إحدى أهمّ عشر بوّابات لوجستية في العالم بحلول عام 2040.
اختارت دولة الكويت التركيز على الإصلاحات المالية والهيكلية. في هذا السياق، يُشير البنك الدولي إلى أنّ دولة الكويت تفوّقت على باقي دول مجلس التعاون الخليجي بفضل الإصلاحات التي طرأت على سوق رأس المال، إلى جانب إدراج الأسهم الكويتية في مؤشّر فوتسي راسل ومؤشّر “مورغان ستانلي كابيتال إنترناشونال” للأسواق الناشئة.
أمّا دولة قطر، فاختارت اعتماد النموذج الذي يقوم على الخدمات، إذ أنّ قطاع الخدمات بمختلف مكوّناته الإدارية والتجارية والاقتصادية والمالية والاجتماعية هو أحد أهمّ القطاعات في الاقتصاد القطري (بحسب جهاز التخطيط والإحصاء).
تشجيع عقليّة ريادة الأعمال
تقول لورا تريندال-موريسون، مؤسّسة شركة “جايم تشينجر” GameChanger الاستشارية، إنّ “السفر هو أحد أهمّ الأمور التي تعوّل عليها المنطقة، إذ اتّخذت قرارات استراتيجية للاستثمار في الترويج لهذا القطاع وتطوير مرافق السفر، فضلًا عن تسليط الضوء على فعاليّات مثل معرض إكسبو 2020 وبطولة كأس العالم المقبلة في قطر”.
وتتابع لورا قائلةً: “أفادت إحصاءات المجلس العالمي للسياحة والسفر بأنّ السياحة المحلية سجّلت نموًا بنسبة 38,6 في المئة، وبنسبة 27,1 في المئة عمومًا عام 2021 حتّى تاريخه، على الرغم من جائحة كورونا، ومن التغيّرات التي طرأت والقيود التي لا تزال مفروضة أحيانًا. كان قطاع السياحة والسفر، قبل الجائحة، يساهم في اقتصاد الشرق الأوسط بقيمة 270 مليار دولار، فالعديد من دول المنطقة تزخر بمعالم طبيعية وتاريخية، ممّا جعل القطاع إحدى المجالات الأساسية للنمو الاقتصادي. سجّلت المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة النمو أيضًا في مجالات المأكولات والترفيه والضيافة والموضة، ويُعزى ذلك إلى تخفيف القيود على تأشيرات الدخول لجذب روّاد الأعمال والمستثمرين والمبدعين، إلى جانب تكثيف الحملات الإعلانية حول الحوافز الضريبية والفرص، لا سيّما في دولة الإمارات، إلى جانب الاستثمار في برامج إنشاء المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة. والملفت أنّ الفرصة سانحة لتطوير هذه المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة التي تُسجّل نموًا عاليًا ودعمها من خلال الأفراد أصحاب الثروات الكبيرة أو صناديق الثروة السيادية أو رأس المال المغامر
القيادة مع ثقافة عنوانها الابتكار
كتب البروفسور محمد س. خورشيد، أمين عام اللجنة التوجيهية لمنظومة الابتكار السعودية عام 2015: “من المهمّ أن تُشجّع الثقافات الإقبال على المخاطر، وتُقدّر الإبداع وتكافئ ريادة الأعمال. يصبح ذلك أسهل في بيئة تتيح للأشخاص الذين يظهرون هكذا قدرات التواصل بسرعة مع بعضهم البعض والوصول إلى الموارد التي هم بحاجة إليها للمضي قدمًا بأفكارهم. يتطلّب ذلك تعاون المؤسسات العامّة والجامعات والمؤسّسات الخاصة في ما بينها، وربطها ببعضها البعض، إلى جانب فهم سلوك العملاء عن كثب بهدف الاستجابة إلى إشارات السوق ودفع اتّجاهات السوق”.
ينطبق ذلك اليوم أكثر من أي وقت مضى، إذ لا يُمكن أن ينجح التحوّل الاقتصادي من دون أن ترافقه إصلاحات اجتماعية وقيادية.
في هذا الصدد، يقول د. راي أ. جونسون، الرئيس التنفيذي لمعهد الابتكار التكنولوجي: “فيما يتطوّر العالم بسرعة، يواجه تحديات عالمية أكثر من أي وقت مضى، بدءًا من تغيّر المناخ والأمين السيبراني، وصولًا إلى انعدام المساواة الاجتماعية والأزمات المالية. ثمّ أتت أزمة كوفيد-19 لتثبت أهميّة دور العلوم والتكنولوجيا في رسم معالم مجتمع قوي. انطلاقًا من خارطة عمل دقيقة، يقود معهد الابتكار التكنولوجي مشاريع ترُكّز على التقنيات المبتكرة، وتُسخّر البيانات الكبرى، وتطوّر بنى تحتية متينة للأمن الرقمي، وتُعمّم القدرات الذاتية. والملفت أنّ هذه التقنيات والحلول الثورية قيد التطوير في المعهد لم يقع الاختيار عليها عشوائيًا، بل لها استخدامات عملية وتطال قطاعات مختلفة. على سبيل المثال، يؤدي علم الكوانتوم وعلم التشفير دورًا محوريًا في حماية البنى التحتية الحسّاسة فيما البحوث حول الطاقة يُمكن استخدامها في مجال الرعاية الصحية. نشجّع الشركات الناشئة والمعنيّين في قطاع التكنولوجيا على طرح أفكارهم المهمّة والمفيدة التي يُمكن أن نطوّرها معًا من أجل الصالح العام. بالتوازي، يعمل أسباير، وهو ذراع إدارة البرامج التكنولوجية التابعة لمجلس أبحاث التكنولوجيا المتطورة (ATRC)، على تحديد المشاكل الأشدّ إلحاحًا التي يواجهها الإنسان اليوم، وعلى دعم أبرز المسابقات بهدف إيجاد الحلول المجدية لهذه التحديات”.
من جهته، يقول رامي لحود، مدير الاستراتيجية في مجموعة “أكورد بزنس جروب“: “إنّ توافر المعلومات، مقرونًا بتطوير الأدوات التكنولوجية لمعالجتها ودمج نماذج البيانات المعقّدة، قد ساعد الباحثين وللمرّة الأولى ليس فقط على تنفيذ هذه النماذج بل أيضًا تصوّر وقعها من خلال الرسومات البينية والنماذج الرقمية وغيرها. تتصدّر البيانات والواقع الافتراضي هذه العقلية المتغيّرة، إذ يملك صنّاع القرار القدرة على الاستفادة من فيض من مصادر البيانات التي قد تشقّ الطريق أمام الباحثين لتقديم نماذج توقّع دقيقة، وإسقاطات للسيناريوهات المحتملة، ممّا يفسح المجال أمام اتّباع مقاربة تستند إلى البيانات لاتّخاذ القرارات”.
ويتابع رامي قائلًا: “لا يأتي التغيير من دون أن يصطحب معه التحديات، وأبرزها تخصّ الكوادر البشرية والموارد والمهارات. لذا وضعت الحكومات برامج لصقل المهارات واستثمرت في تشجيع إقبال الشباب على التعليم والتخصّص، وذلك بالتعاون مع القطاع الخاص، ومع شركات التكنولوجيا في المنطقة المستعدّة لبناء الجسور والعلاقات على الأمد الطويل مع هؤلاء الشباب.
يتوجّب على القادة استيعاب التغيير والقيادة بالقدوة، وفي الوقت نفسه فهم مختلف القوى ونقاط الجذب ضمن نطاق السوق التي يعنون بها، فيتسنّى لهم تحديد هيكلية مؤسّستهم وبالتوازي ترسيخ أنظمة جديدة. أمّا التأميم، فيحمل معه تحدّي دمج الثقافات داخل الشركات، بالإضافة إلى تحديد المقاييس الصائبة لإدارة الموارد البشرية وتحفيزها والحفاظ عليها.
لا بدّ من أن تكون مقاربة كلّ هذه التغيّرات مرنة نوعًا ما، وتستند إلى الاختبارات عوضًا عن نموذج غير ملموس وثابت. ستحتاج المسألة إلى الانفتاح على الملاحظات والتعديلات، ولن يخلو الأمر من هامش أخطاء، شرط استخلاص الدروس بسرعة ووضع الإجراءات المضادة الصائبة”.
صحيح أنّ كل دولة من دول الشرق الأوسط تعمل وفقًا لرؤيتها الخاصة وخارطة طريقها المنفردة، غير أنّ التعامل مع الاتجاهات والتحديات العالمية والإقليمية يبقى القاسم المشترك بينها كلّها. وفي ظلّ كل هذه المشاريع التي تتطلّب التركيز، يجب أن يعمل القادة أوّلًا وقبل أي شيء على خلق ثقافة عمل تحتضن الابتكار والإبداع والصمود. بالتوازي، يجب أن تُفكّر مسبقًا بإنشاء فرق عمل أكثر رشاقةً ومرونةً، لا يصعب عليها التكيّف بسرعة مع التغيّرات الدائمة.
يحمل التنويع الاقتصادي معه ثقافة عنوانها الانفتاح والتعاون والابتكار المشترك. وعلى هذا الأساس يجب على القادة إعادة رسم رؤيتهم، بما يخدم شركتهم وموظّفيهم ومجتمعاتهم عمومًا.
يختصر د. جونسون كل ما سبق قائلًا: “هذه رحلة، ولسنا سوى في البداية – لا يزال علينا قطع الكثير من الأشواط حرصًا على ألا نكتفي بتعزيز مساهمة القطاع التكنولوجي المتطوّر في الاقتصاد فحسب، بل أيضًا تعزيز الدولة كجهة فاعلة رائدةً عالميًا في مجال التكنولوجيا المتطوّرة”.