نشر التوعية حول الصحة النفسية: واقع الشركات في الشرق الأوسط
فيما تزداد أهميّة الحديث عن الصحة النفسية حول العالم، يبقى هذا الموضوع من المحرّمات في الشرق الأوسط، حيث وصلت نسبة الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب واضطرابات القلق إلى 30 في المئة من إجمالي عدد السكان، وهي نسبة صادمة.
أشارت دراسة أُجريت عام 2019 إلى ما يلي: “مع أنّ الاضطرابات النفسية هي أحد المسبّبات الأساسية للإعاقة في العالم العربي، الذي يستأثر بنسبة 5,54 في المئة من عدد سكّان العالم، إلا أنّ الدول العربية تُصدر 1 في المئة فقط من المنشورات الخاضعة لمراجعة النظراء في مجال البحوث المتعلّقة بالصحة النفسية”.
تشير الدراسة إلى أنّ أبرز التحديّات تتمثّل بانتشار وصمة العار المرتبطة بهذا الموضوع، وبغياب التوعية، وندرة الموارد المؤسساتية والتمويلية، وضعف التدريب في مجال البحوث المتعلّقة بالصحة النفسية، إلى جانب النقص في أدوات التقييم الصالحة والموثوقة، وغيرها من التحديات.
لا بدّ لأي خطّة عمل تعالج هذه التحديات أن تبدأ أوّلًا وقبل أي شيء بإزالة وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية، ونشر التوعية. ومع أنّ هكذا خطّة تُشكّل خارطة طريق للدول العربية على صعيد الحكومة، فهذا لا يعفي المؤسّسات الخاصة والعامة من القيام بواجبها أيضًا. تستطيع الحكومة سَنّ القوانين دعمًا للصحة النفسية، لكن إذا لم تتكيّف الشركات لاستيعاب المشاكل المتعلّقة بالصحة النفسية ومعالجتها، فسيتردّد الموظّفون بالإفصاح عن مشاكلهم النفسية.
يتوجّب على القادة بدايةً نشر الوعي حول الصحة النفسية داخل شركاتهم. فعوضًا عن التعامل مع هذه المسألة على أنّها من المحرّمات، يجب تقبّلها وزيادة الوعي حولها. ففي النهاية، لمَ لا نتعامل مع الصحة النفسية تمامًا مثل الصحة الجسدية؟
تؤكّد د. كارولين لوريان، رئيسة قسم التحوّل السريري في شركة SilverCloud Health، هذا الواقع، وتشرح ضرورة أن يشعر الموظّف بأنّ الشركة تسانده في كافة النواحي، بما في ذلك الصحة النفسية، كي ينجح في عمله. في السنوات الأخيرة، زاد عدد الناس الذين يتطرّقون إلى مسألة الصحة النفسية إلى حدّ كبير، غير أنّ وصمة العار لا تزال حاضرة في مكان العمل. يُمكن للشركات اتّخاذ خطوات فعّالة لنشرة التوعية، مثلًا تشجيع النقاش حول الصحة النفسية، وفي الوقت نفسه تطبيق إجراءات تضمن عدم التمييز في معاملة الموظّفين الذين يفصحون عن معاناتهم من مشاكل أو اضطرابات نفسية.
تشجيع البرامج التي تُعنى بالصحة النفسية
لا بدّ من أن يطال الحديث عن الصحة النفسية كل مستويات الشركة، ويجب تدريب المدراء بحسب التراتبية لمساعدتهم على تحديد العوارض المرتبطة بمختلف الاضطرابات النفسية.
توصي مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة الأميركية بإنشاء برامج تدريبية بالتعاون مع كليات الأعمال لتعليم القادة أسس بناء قوى عاملة تتمتّع بالصحة النفسية، والمحافظة عليها.
بإمكان الشركات صياغة مواد غنيّة بالمعلومات المفيدة تسلّط الضوء على مشاكل الصحة النفسية وتطرح فرص العلاج، وإتاحتها بسهولة أمام الموظّفين. كما يُمكنها استضافة الأخصائيين والخبراء لتفسير أسباب وعوارض القلق والاكتئاب، ولإطلاع الموظّفين على سبل إدارة التوتّر بهدف الحدّ من القلق وتحسين القدرة على استخدام المهارات الذهنية والتركيز.
ومن الحلول الأخرى تعيين مسؤولين عن العافية من بين الموظّفين، لمساعدة الآخرين عند الحاجة.
تُضيف كارولين أنّ نشر التوعية على صعيد الشركة برمّتها يتطلّب إيجاد سبل خلّاقة ومنتظمة لتبقى مسألة الصحة النفسية في أولى أوليات الموظّفين. وهنا من المجدي أكثر اعتماد خطة تفاعل مدروسة، متكيّفة مع جماهير وفئات مختلفة (مثلًا الموظّفين داخل المعامل مقابل الموظّفين عن بُعد)، مقارنةً بحملة توعية شمولية تنطبق على الجميع أو رزنامة من الفعاليات التي تُعنى بالعافية.
الحدّ من الإيجابية السامّة
ترى ماريانا بوديو، وهي أخصائية في علم النفس السريري وخبيرة استراتيجية في مجال العافية في شركة Plumm، أنّه من المهمّ إنشاء فسحة خاصة للموظّفين لتلقّي المساعدة والدعم على الصعيد النفسي في الوقت الذي يلائمهم. ففي مكان العمل، يرزخ الموظّفون عادةً تحت ضغط كبت مشاعرهم السلبية، الأمر الذي يضرّ بصحّتهم الجسدية والنفسية. وغالبًا ما يُنَصح الموظفون بـ”النظر الجانب المشرق” أو “عدم الشعور بالقلق أو التوتّر أو الاستياء” وذلك عن نيّة حسنة هدفها المساعدة والتشجيع، لكن في الواقع، هذه المقاربة قد تُشعر الشخص بأنّ أحاسيسه غير مبرّرة وقد تنشر “الإيجابية السامّة”.
وتقول ماريانا: “يجب أن يُشكّل أرباب العمل مثالًا يُحتذى به بشأن التوعية حول الصحة النفسية، فيدعمون الموظّفين ويحترمونهم ويصغون إلى أحاسيسهم في مكان العمل، عوضًا عن الطلب منهم أن يكبتوا أي إحساس غير ’السعادة‘”.
دعم نموذج العمل الهجين
باتت عدّة شركات اليوم تعتمد نموذج العمل الهجين، في إطار السعي إلى الحفاظ على بيئة عمل صحية. ومع زيادة عدد الناس الذين يعملون من المنزل، من المهمّ أن تتفقّد الشركات حال موظّفيها، إذ من السهل جدًا إخفاء المشاعر خلف شاشة الكمبيوتر، كما تقول ماريانا.
ترى ماريانا أنّه لا يجدر بالشركات أن تغضّ النظر عن فوائد نموذج العمل الهجين، بل أن تقرّ بأنّ القبول يتوقّف على الفرد، وبأنّ مراعاة الاحتياجات الفردية لدى كل موظّف سيساهم في ضمان صحّته النفسية. بالنسبة إلى البعض، تؤمّن مرونة نموذج العمل من المنزل الراحة النفسية لهم، فيما قد يتأثّر غيرهم بمشاعر سلبية مثل الانعزالية.
هنا تكمن أهميّة تطبيق أنظمة الدعم وتفقّد حال الموظّفين بشكل منتظم، ليكونوا على يقين بأنّهم يستطيعون التحدّث عن صحّتهم النفسية، أيًا كانت الظروف.
الشمولية كهدف استراتيجي
نعني بالشمولية أن تتيح الشركات فرصًا عادلة للتوظّف، وتؤمّن تكافؤ الفرص والموارد “للأشخاص الذين قد يتمّ استثناؤهم أو تهميشهم لولا ذلك، مثلًا أولئك الذين يعانون من إعاقات جسدية أو نفسية، أو أي أفراد تابعين للأقليّات”، بحسب ماريانا.
لا يكفي أن تعتبر الشركة نفسها شمولية، بل يجب أن تلبّي كل المعايير أعلاه، وتتعامل مع الصحة النفسية لموظّفيها على أنّها من الأولويّات. وكما تشرح ماريانا، فإنّ الشمولية الحقيقية في مكان العمل تعني أن يشعر الفرد بالتقدير والقبول ضمن فريقه، وعلى صعيد المؤسّسة عمومًا، من دون أن يضطر إلى الامتثال إلى ضوابط محدّدة.
تتيح الشركات الشمولية للموظّفين النجاح في عملهم، بغضّ النظر عن خلفيّتهم أو ظروفهم.
وتختتم ماريانا حديثها بالتطرّق إلى شروط تطبيق الشمولية بمعناها الحقيقي في الشركات، حيث يجب على أرباب العمل بناء ثقافة تُعالج مشاكل الموظّفين، بما في ذلك التوعية حول الصحة النفسية، واتّخاذ الخطوات ليشعروا بالارتياح.
إذا بدأت كل هذه المواضيع تلقى صدًى لدى الشركات في الشرق الأوسط، فذلك لا يعني أنّها باتت تعلم بالأمر فحسب، بل أنّها مستعدّة للإصغاء والمبادرة لإحداث التغيير. فهذه المسألة باتت جوهرية حيث الرؤى الحكومية تتمحور حول سلامة المواطنين وعافيتهم. لا بدّ من اعتماد رؤية شمولية واتّخاذ تدابير تشمل فعلًا العوامل التي تحرص على عافية المواطنين. فلا يُمكن تغيير نواحٍ محدّدة وغضّ النظر عن نواحٍ أخرى. لن يتحقّق التغيير إلا عندما تصبح الصحة النفسية من الركائز الطبيعية والأساسية في مكان العمل.