تحقيق استدامة الشركات في الشرق الأوسط
تشهد استدامة الشركات نموًا ثابتًا في العامَين الأخيرَين، مع انضمام عدد أكبر من الشركات إلى الجهود التي تهدف إلى تلبية الشروط التي وضعتها الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.
بحسب الأمم المتحدة، نعني بالتنمية المستدامة الخطوات “التي تلبّي احتياجات الحاضر من دون المساس بقدرة أجيال المستقبل على تلبية احتياجاتهم”.
وفي حين أنّ التنمية المستدامة تبدأ على مستوى الدول، ثمّ تتسرّب إلى المجتمعات والمؤسّسات، إلا أنّ استدامة الشركات تقع مباشرةً على عاتق الشركات في القطاعَين العام والخاص.
وفقًا لدليل الأمم المتحدة العالمي الموجز للتنمية المستدامة، هناك خمس ركائز أساسية لا بدّ للشركات من التقيّد بها من أجل تحقيق الاستدامة:
- عمل يقوم على مبادئ: لا بدّ على أي شركة تسعى لتحقيق الاستدامة أن تعمل بمصداقية – فتحترم المسؤوليات الأساسية في مجالات حقوق الإنسان، والعمالة، والبيئة، ومكافحة الفساد.
- تقوية المجتمع: يجب أن تنظر الشركات المستدامة خارج حدود جدرانها وتبادر لدعم المجتمعات من حولها. فالفقر والنزاعات والقوى العاملة الأمية والشحّ في الموارد، كلها مسائل استراتيجية لا بدّ من معالجتها لضمان نجاح العمل واستمراريته.
- التزام القيادة: يبدأ إحداث التغيير من قيادة الشركة، التي يجب أن ترسل إشارات واضحة على مستوى المؤسّسة بأنّ الاستدامة مسألة يجب أن تؤخذ في الحسبان، وأنّ كل المسؤوليات مهمّة.
- إعداد التقارير حول سير العمل: لا بدّ من إعداد التقارير الاستراتيجية، التي تُظهر أرقام الربح والخسارة، وتعطي المساهمون في الشركة لمحة عن جهودهم الهادفة إلى تشغيل الشركة بطريقة مسؤولة ودعم المجتمع.
- خطة محلية: تنوجد الشركات وتعمل ضمن دول ومجتمعات حيث تتفاوت التوقّعات إلى حدّ كبير حول مفهوم العمل المسؤول.
وبما أنّ الركائز أعلاه تنطبق أينما كان حول العالم، سوف نلقي نظرة عن كثب على الشركات في دول الخليج العربي – خاصة وأنّ هذه المنطقة تعتمد على تصدير النفط وهي في الوقت نفسه ملتزمة بالانتقال من اقتصاد يقوم على النفط إلى اقتصاد أكثر تنوّعًا. من هذا المنطلق، تتصدّر الشركات في هذه المنطقة جهود استدامة الشركات، ويجب أن تكون قوّة الدفع وراء إحداث التغيير في هذا المجال.
وهنا سؤال يطرح نفسه: كيف تقود هذه الشركات مفهوم استدامة الشركات؟ كيف هو المشهد الاقتصادي الذي تعمل فيه، وما هي التحديات التي تواجهها؟
رسمت الدول في الخليج العربي رؤية واضحة لسنة 2030 تتيح لهذه الشركات مزاولة مهامها ضمن إطار عمل قائم على نقاط واضحة ومحدّدة. صحيح أنّ كل دولة وضعت رؤيتها الخاصة، إلا أنّ أهدافًا مشتركة تجمع بينها، وتدور حول النقاط التالية:
- التنمية البشرية
- العدالة الاجتماعية
- تطوير الاقتصاد
- الحفاظ على البيئة
على صعيد التنمية البشرية تلتزم المملكة العربية السعودية مثلًا، بخفض معدّلات البطالة إلى 7 في المئة بحلول عام 2030، وزيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة لتُشكّل 30 في المئة منها.
في هذا الصدد، يقول زهير المغربي، رئيس قطاع الموارد البشرية في الشركة الوطنية للإسكان، الذراع الاستثمارية لوزارة الإسكان: “لا بدّ من غرس مفهوم الاستدامة في أذهان الناس كثقافة وطريقة تفكير أوّلًا وقبل أي شيء. صحيح أنّ الاستدامة تبدأ على مستوى القيادة، إلا أنّه يجب تطبيقها على كافة مستويات المؤسسة، وإلا نكون نعرّض نفسنا للخطر. فأن ندّعي الاستدامة شيء، وأن نطبّقها بفعالية مع كافة المعنيين شيء آخر. نحن في الشركة الوطنية للإسكان نعمل بجهد من أجل إنشاء قوى عاملة منوّعة إلى حدّ كبير، حيث يساهم اختلاف الأفكار والثقافات في اتّخاذ قرارات أفضل وأغنى. أمّا على الأرض، فقد أطلقنا منصة البناء المستدام، الهادفة إلى تحسين عدد الخدمات التي تساهم في استدامة الوحدات السكنية وذلك من خلال رقابة الامتثال وتقييم الاستدامة وفحص جودة المقاولين. علاوةً على ذلك، نعمل من دون كلل مع كوادرنا البشرية ونطوّرها لإرساء ثقافة الاستدامة، واعتماد رؤية سابقة لعصرها”.
يأتي هذا في زمن يستوجب اتّخاذ خطوات ملموسة من أجل ضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة, يكمل المغربي.
بدوره، قال البروفسور باولو تاتيكي – كلية لندن الجامعية لإدارة الأعمال، إنّه عندما كان يدرّس الاستدامة في أحد برامج الماجستير في إدارة الأعمال التي تقدّمها شركة سعودي أرامكو، انبهر بمعدل المشاركة النسائية في المجموعة، والذي فاق ربّما العدد في برامج أخرى مماثلة في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة الأميركية، ويقول في هذا الصدد: “صادفتُ أيضًا مدراء موهوبين منفتحين على مناقشة مسائل الاستدامة ومدركين جدًا لأهمّية هذا الموضوع بالنسبة إلى مستقبل شركاتهم وبلدهم”.
على الصعيد الاجتماعي، تسعى قطر إلى إرساء مجتمع يقوم على العدالة والاهتمام بالآخر انطلاقًا من مبادئ أخلاقية سامية، وقادر على تأدية دور مهم في الشراكة العالمية من أجل التطوير.
أمّا من الناحية الاقتصادية، فإنّ الكويت تعمل على ترسيخ نفسها كمركز للتجارة والمال، وتخلق الظروف المؤاتية لجذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير دور القطاع الخاص في الكويت في مجال النمو الاقتصادي والتعليم وتدريب الشباب والتنمية إجمالًا.
بدورها، وضعت الإمارات العربية المتحدة رؤية محورها الحفاظ على البيئة، تقوم على خمس ركائز أساسية هي تغيّر المناخ والهواء النقي والتلوّث الضوضائي، والموارد المائية، والتنوّع الحيوي، والموائل والتراث الثقافي، وإدارة النفايات.
لم تساهم الشركات مثل مصدر، الرائدة في المنطقة في مشاريع الطاقة المتجدّدة، في اعتماد الحلول التي تقوم على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح فحسب، بل ساعدت على تعميم ثقافة هذا النوع من المشاريع، بحسب البروفسور تاتيكي.
يعمل البروفسور تاتيكي في دبي منذ عدّة سنوات، حيث لمس ثقافة محلية رائعة منفتحة على التغيير والابتكار. ويرى بأنّ الفضل في ذلك يعود إلى رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي حفّز المدينة على معانقة التحديات والفرص المترتّبة على بناء مستقبل أكثر استدامة.
وفي الختام، يقول البروفسور تاتيكي: “إنّ العمل الفعّال الذي تقوم به مؤسسة دبي للمستقبل هو خير مثال على أنّ دبي تترجم أقوالها إلى أفعال”.
باختصار، كل الدول وضعت استراتيجيات واضحة للحدّ من بصمتها الكربونية واعتماد الطاقة البديلة والمتجدّدة.
تُشكّل هذه المشهدية بيئة متينة ومؤاتية للشركات للانتقال نحو نموذج استدامة الشركات، غير أنّ ذلك يتطلّب التخطيط على المدى الطويل ورؤية واضحة لقادة الشركات حول مستقبلها وحول تصوّرهم لهذه النزعة الجديدة على الصعد البشرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، بالتوازي مع رؤية الدول التي يعملون فيها.
ويبقى السؤال، ما الإجراءات العملية التي يُمكن اعتمدها عمليًا لتسهيل الانتقال إلى هذا النموذج الجديد؟ الجواب في مقالنا الذي يحمل عنوان “بناء مستقبل مستدام” هنا.