حلّ النزاعات في بيئة عمل تقوم على التنوّع
تتميّز منطقة الشرق الأوسط بسمات كثيرة، أبرزها التنوّع. فدولة الإمارات العربية المتحدة لوحدها تأوي أكثر من 200 جنسيّة، وقطر أكثر من 100 جنسيّة. أمّا المملكة العربية السعودية، فأكثر من 30 في المئة من سكّانها هم أجانب، فيما تبلغ هذه النسبة 70 في المئة في الكويت.
من البديهي أن ينعكس هذا التنوّع في مكان العمل، حيث نجد كوادر بشرية من ثقافات وأعراق مختلفة، نساءً ورجالًا، تعمل جنبًا إلى جنب كل يوم. يُشكّل هذا التنوّع مصدر غنًى للشركة ويعزّز من قدراتها على الابتكار والإبداع، لكنّه لا يخلو من بعض التحديّات الكبرى.
بحسب فيونا دانيال، مؤسِّسة شركة FD2I ورئيستها التنفيذية، فإنّ بيئة العمل الحديثة في العديد من الحالات لا تزال تطغى عليها ثقافات محدّدة، حيث نشهد تنوّعًا كبيرًا على مستوى المناصب المبتدئة، فيما المناصب الإدارية العليا متجانسة.
تقول فيونا إنّ العمل في بيئات مماثلة قد يُشكّل تحديًا كبيرًا للمجموعات أو الأفراد “الذين ينظرون إلى الأعلى ولا يرون نفسهم. فقد يصعب عليهم حتّى محاولة الانسجام مع الآخرين، والتعبير عن آرائهم، والشعور بالاحترام والتقدير وتلقّي السند، إذا كانوا يشعرون بأنّهم لا ينتمون إلى الشركة ولا يستطيعون النجاح فيها بسبب أوجه الاختلاف التي تفرّقهم عن الآخرين”.
بدوره، يرى تحميد شاودري، أحد مؤسّسي منظّمة Here for Good وأحد رؤسائها التنفيذيين، أنّ التنوّع المتزايد لا يعني بالضرورة “صورة مشرقة وأحلامًا وردية”. ففي غياب التخطيط السليم على صعيد المؤسّسة، قد يؤدّي التنوّع في الواقع إلى بيئة عمل أسوأ. ويشرح أنّ الموظّفين من خلفيات ومعتقدات مختلفة يُنتظر منهم مجاراة الأغلبية، الأمر الذي يبدّد أي مزايا لهذا التنوّع من أصله.
قد تهيّء هذه الظروف المناخ لنشوب النزاعات. ومع أنّ النزاعات لا مفرّ منها في مكان العمل، وقد تطرأ حتّى في أكثر الشركات تجانسًا، إلا أنّها تزيد تعقيدًا وصعوبةً في بيئات العمل المتنوّعة.
الأسباب الجذرية للنزاع
تتعدّد أسباب نشوب النزاعات في بيئة العمل المتنوّعة، لكنّ الأسباب الأبرز تنبع من انعدام المساواة، إن كان على صعيد التمييز بين المرأة والرجل، أو التمييز على أساس العرق أو الجيل أو الثقافة.
تُعدّد جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM) الأسباب التالية لنشوب النزاعات في مكان العمل، على سبيل المثال لا الحصر:
- الاختلافات في الشخصية
- عدم تلبية الاحتياجات في مكان العمل
- عدم المساواة في توزيع الموارد
- غياب الوضوح في تحديد الأدوار في مكان العمل
- سوء إدارة التغيّر والتبدّل على صعيد المؤسّسة
- الضعف في التواصل
مع أنّ النقاط أعلاه قد تُشكّل منطلقًا للنزاعات، المهمّ ألا يتفاقم النزاع ويعالَج بسرعة، بغضّ النظر عن السبب.
ترى عائشة سليمان، مؤسّسة شركة The Inclusive Culture، أنّه لا مفرّ من النزاع في مكان العمل، لا بل قد يكون إيجابيًا، فأحد مزايا القوى العاملة المتنوّعة هو تَعدُّد الأفكار والمقاربات لحلّ المشاكل. وتقول إنّه عندما يختلف الزملاء حول الاستراتيجية المتّبعة لحلّ مشكلة ما، قد ينشب نزاعًا في ما بينهم. قد يؤدّي هكذا نزاع إلى نتيجة إيجابية إذا تَمّ التعامل معه بشكل بنّاء.
وتتابع عائشة قائلةً: “لكن النزاعات تكون سلبية عندما يختبر الموظّفون معاملة غير منصفة أو أخلاقية، تسبّب لهم القلق. قد تُعزى النزاعات السلبية إلى عوامل عدّة، مثل سوء الإدارة، وعدم الوضوح في تحديد الأدوار الوظيفية، وغياب تكافؤ الفرص، والتنمّر، والتحرّش”.
عواقب النزاعات العالقة
بحسب جمعية إدارة الموارد البشرية: “إنّ المشاكل العالقة الناتجة عن التوتّر والنزاعات بين الموظّفين قد تخلق إجهادًا عاطفيًا لدى الموظّفين، وتؤدّي إلى تسييس مكان العمل وتشتيت الانتباه عن رسالة الشركة ومهمّتها. إذا لم يبادر أرباب العمل لإيجاد حل، قد تتفاقم النزاعات إلى مشاكل أكبر، وقد تزداد الشكاوى حول التمييز والتحرّش، ممّا قد يضرّ بسمعة الشركة”.
أمّا لجهة الموظّفين، فتنعكس النزاعات العالقة سلبًا على حافزهم والتزامهم بالعمل، ولا يقتصر ذلك على الموظّفين المعنيّين مباشرةً بالنزاع فحسب بل يشمل الموظّفين الشاهدين عليه أيضًا. ففي نهاية المطاف، يتردّد صدى النزاعات العالقة على المؤسّسة برمّتها ويعكس كيفية تعامل الشركة مع هذه المسائل، وما إذا كانت تطبّق سياسات وإجراءات محدّدة لحل النزاعات.
في هذا السياق، يقول سعد الحاج، مدير تطوير الشركات في الشرق الأوسط وأفريقيا في “هيدسبرنغ“: “عندما لا تحافظ المؤسّسات على مناخ ثقافي سليم، ولا تقوم باحتضان موظّفيها وتدريبهم وتطبيق مبدأ الشمولية، تتراوح العواقب من انخفاض الإنتاجية إلى عدم الولاء، والاستهتار في العمل الجماعي، واللامبالاة، فتنتشر ثقافة عمل لا يودّ أحد الانتماء إليها”.
حل النزاعات بنجاح
لا يبدأ حلّ النزاعات دائمًا على مستوى القيادة. في الواقع، يجب أن يأتي تدخّل القادة كملاذ أخير في حال فشلت كل المساعي الأخرى. يجب أن تسعى كل شركة إلى إرساء ثقافة تشجّع الموظّفين على حلّ النزاعات في ما بينهم، إذ أنّ ذلك يغرس حسّ المسؤولية والمساءلة بين الموظّفين، ويدفعهم إلى إيجاد حلولهم الخاصة، عوضًا عن اللجوء إلى الإدارة في كل مرة ينشب فيها نزاع.
لكن ذلك لا يعفي القيادة من مسؤولية إعداد السياسات والإجراءات الواضحة لإدارة النزاع. يجب أن يدرك الموظّفون أنّه في حال اللجوء إلى التحكيم، يتمّ اتّخاذ القرارات وفقًا لعمليّة واضحة وشفّافة معمّمة مسبقًا على جميع موظّفي الشركة.
وفي بيئات العمل المتنوّعة تحديدًا، يميل الموظّفون إلى تقييم بعضهم البعض انطلاقًا من الاختلافات الثقافية عوضًا عن السلوك في مكان العمل. في هذه الحالة، تقع على قسم الموارد البشرية مسؤولية تدريب الموظّفين على كيفية تقييم بعضهم البعض وفقًا للأصول وعلى السلوك السليم.
ترى عائشة سليمان أنّ المدراء بحاجة إلى تدريب وافٍ حول كيفية إدارة الفرق والنزاعات بنجاح. وهذا يستدعي الدعم من الموارد البشرية وفرق علاقات الموظّفين لاحتواء النزاعات السلبية قبل تفاقمها.
علاوةً على ذلك، يجب أن تقوم المبادئ التوجيهية للتواصل على الاحترام المتبادل وقبول الآخر والإصغاء الفعّال والتعاطف، في كل الأوقات.
ويقول سعد الحاج أنّ هناك ستّ خطوات يجب أن تتّبعها الشركة لتخلق ثقافة عمل صحية ومتنوّعة ومستدامة:
- إظهار الدعم من الإدارة العليا
- التشديد على مسؤولية كل فرد
- صياغة الثقافة المنشودة بصورة رسمية وتعميمها على موظّفين الشركة
- تأمين التدريب
- الاحتفال بالنجاح
- الحفاظ على علاقات طيّبة
بدورها، ترى عائشة أنّ بيئة العمل الشمولية تكرّم الموظّفين وتتقبّلهم بكل تنوّعهم وتَميّزهم، فتنشأ علاقات إيجابية بينهم بفضل وجود ثقافة تقوم على التعاون والانفتاح والصدق واحترام الجميع. تُساهم هكذا ثقافة شمولية في الحؤول دون تفاقم النزاعات وانعكاسها سلبًا على الشركة.
العمل على تمتين العلاقات بين الموظّفين
يجب أن يكون التنوّع في مكان العمل مصدرًا متواصلًا للنمو والتعلّم الدائم، ويجب أن تُشكّل الاختلافات التي قد تُسبّب النزاعات ركيزة لروح الوحدة بين الموظّفين.
من هذا المنطلق، يترتّب على القيادة إرساء علاقات متينة بين الموظّفين تقوم على الانفتاح والشفافية والثقة والتعاطف.
تشرح عائشة أنّ وجود علاقات متينة بين الموظّفين قد يساهم في الحدّ من النزاعات وإدارتها. لذا لا بدّ من أن يشمل قسم الموارد البشرية أخصائيين في إدارة علاقات الموظّفين، وغرس هذا المفهوم في دور كل مسؤول في قسم الموارد البشرية، كي تصبح علاقات الموظّفين جزءًا لا يتجزّأ من مسؤولياتهم.
يرى سعد أنّ علاقات الموظّفين أساسية وضرورية للحفاظ على ثقافة متنوّعة وصحية.
لا يُمكن للشركات أن تتطوّر من دون نمو الموظّفين على الصعيد الشخصي، وينعكس هذا النمو في الحدّ من النزاعات في بيئات العمل المتنوّعة وبالتالي على نجاح الشركة عمومًا.
في الختام، يقول سعد إنّ احتضان الموظّفين والتدريب الجماعي والعمل الجماعي، كلّها عوامل أساسية لتوطيد العلاقات بين الموظّفين، ولا سيّما في بيئة عمل متنوّعة. ومن المهمّ أيضًا تبديد مفهوم التخاذل، حيث يسود الاعتقاد بين الموظّفين بأنّ التغيير الثقافي أمر حتمي وبعيد المنال، علمًا أنّ العكس صحيح: التغيير من الثوابت العامة، ويُمكن الانتقال نحو ثقافة صحية تقوم على التنوّع والشمولية من خلال تدريب الموظّفين وإدماجهم بصورة سليمة.
فكلما تواصل الناس أكثر، وكلما أصغوا أكثر لفهم بعضهم البعض، زاد تقبّلهم للآخر وأصبحت أوجه الاختلاف بينهم مصدر غنى للمؤسّسة برمّتها. طبعًا ذلك لا ينفي تمامًا نشوب النزاعات، بل يفسح المجال أمام إرساء ثقافة صحية وناضجة ومتعاطفة في مكان العمل، حيث يشعر كل شخص بقيمته وبأنّ صوته مسموع.